الدكتور|| محمد أبو نار- الخبير الاقتصادي “يكتب”.. الركود التضخمي “Stagflation” والهبوط الناعم
بقلم: الدكتور/ محمد أبو نار- الخبير الاقتصادي و المصرفي
الركود التضخمي هو ظاهرة تجمع بين الركود والتضخم، حيث نجد فيها نمو اقتصادي ضعيف وبطالة عالية أي ركود اقتصادي، ولكن يكون هناك ارتفاع في الاسعار، وتعتبر ظاهرة او حالة غير مرغوب فيها.
وظهر مصطلح الركود التضخمي لأول مرة خلال فترة التضخم والبطالة في المملكة المتحدة في ستينات وسبعينات القرن الماضي، اذ ارتفع معدل التضخم خلال تلك الفترة وفشل صناع السياسة في المملكة المتحدة في الاعتراف بالدور الاساسي للسياسة النقدية في السيطرة على التضخم، وحاولوا بدلاً من ذلك استخدام السياسات والاجهزة غير النقدية في الاستجابة للازمة الاقتصادية، فقد أجري صناع السياسة تقديرات غير دقيقة لدرجة الطلب في الاقتصاد، ما ساهم في ارتفاع التضخم في المملكة المتحدة بشكل كبير خلال الستينات والسبعينات.
ولم يقتصر الركود التضخمي علي المملكة المتحدة، حيث أظهر علماء الاقتصاد أن الركود التضخمي كان منتشرا بين سبعة نظم اقتصادية رئيسية من عام 1974 وحتي عام 1982 وهذه المرة كان بسبب ارتفاع اسعار البترول أواخر عام 1973 بعد الحرب العربية الاسرائيلية، فقد تحول تركيز علماء الاقتصاد بعد أن بدأت معدلات التضخم في الانخفاض عام 1982 إلي نمو الانتاجية وتأثير الأجور الحقيقية علي حجم الطلب علي العمالة.
ونتيجة التعافي الهش من أحداث كورونا والحرب الروسية الاوكرانية، فقد ارتفعت الاصوات المحذرة من دخول الاقتصاد الامريكي في حالة من الركود التضخمي حالياً، مع تباطؤ النمو وارتفاع التضخم، ويأتي ذلك بعد أن سجلت الولايات المتحدة أكبر معدل للتضخم منذ حوالي 41 عاماً عند مستوي 8.6% خلال شهر مايو 2022 مع تسجيل انكماش بنسبة 1.5% في الربع الاول من العام الحالي، مع مزيد من تحركات الفيدرالي الأمريكي لرفع أسعار الفائدة في محاولة منه للسيطرة علي التضخم، ولأن الولايات المتحدة الامريكية هي أكبر اقتصاد في العالم فعادة ما يعكس ما يمر به اقتصادها علي بقية العالم، وبينما يناقش الاقتصاديون احتمال حدوث ركود اقتصادي في العام المقبل، فإن الولايات المتحدة الامريكية عالقة بين التضخم المصحوب بالركود.
وتزايدت مخاوف الاقتصاديين بشأن قدرة الاحتياطي الفيدرالي الامريكي علي هندسة ما يسمي ب “الهبوط الناعم”، والذي يتجنب الركود مع قدرته علي تخفيض التضخم، ولأن الاقتصاد الامريكي ليس وحده الذي يواجه هذا المسار، فخلال شهر يونيو 2022 فقد خفض البنك الدولي توقعاته للنمو العالمي إلي 2.9% هبوطاً من توقع سابق عند 4.1%، مع تحذير البنك الدولي “تواجه التوقعات العالمية مخاطر هبوط كبيرة، بما في ذلك التوترات الجيوسياسية المتزايدة فترة ممتدة من التضخم المصحوب بركود يذكرنا بالسبعينات والضغوط المالية واسعة النطاق الناجمة عن ارتفاع تكاليف الاقتراض وانعدام الأمن الغذائي”.
وفي تقريره السنوي، كتب بنك التسويات الدولية BIS (والذي يعد البنك المركزي للبنوك المركزية حول العالم وهو مهندس اتفاقيات بازل لمواجهة المخاطر المصرفية ويتخذ من مدينة بازل بسويسرا مقراً له)، إن مخاطر التضخم المصحوب بالركود تلوح في الافق بشكل كبير، حيث أن مزيجاً من الاضطرابات المستمرة من الوباء والحرب في اوكرانيا وارتفاع الاسعار ونقاط الضعف المالية تتزايد يوماً بعد يوماً، مبيناً أن أولوية البنوك المركزية حول العالم هو استعادة معدلات التضخم إلي مستهدفاته.
وفي تقريره ذكر بنك التسويات الدولية أنه في الوقت الذي تبدأ فيه البنوك المركزية معركتها ضد التضخم، يجب أن تهدف إلي تقليل الضرر الذي يلحق بالنشاط الاقتصادي، هذا وقد أشار البنك المذكور إلي صعوبة ما يسمي بالهبوط الناعم في تقريره، مبيناً أنها واجهت صعوبات تاريخياً كما تجعل ظروف الوقت الحالي والبداية المتأخرة والتحديات الكبيرة تواجه صعوبات كبيرة نحو تحقيق الهبوط الناعم.
وأضاف بنك التسويات الدولية إن تكرار التضخم المصحوب بركود كما في سبعينات القرن الماضي هو أمر غير مرجح بسبب تحسن السياسة النقدية والأطر الاحترازية الكلية وقلة التعرض لصدمات الطاقة، وأن مفتاح البنوك المركزية للتصدي للازمة هو التصرف بسرعة وحسم قبل أن يترسخ التضخم، مبيناً أنه إذا حدث ذلك فستكون تكاليف إعادته تحت السيطرة أعلي.
وفي استجابة للأزمة من قبل البنوك المركزية الكبري، فكان مجلس الاحتياطي الفيدرالي (وتلاه معظم دول الخليج) قد رفع سعر الفائدة ثلاث مرات خلال العام الحالي وفي ثلاثة اجتماعات متتالية، بينما رفع بنك انجلترا المركزي سعر الفائدة خمس مرات، ورفع البنك المركزي المصري سعر الفائدة بمقدار 3% منذ بدء الحرب الروسية الاوكرانية في اجتماعين متتاليين بدأها في 21 مارس الماضي قبل أن يقوم بالتثبيت في الاجتماع الثالث يوم 23 يونيو الماضي، بينما ظل البنك المركزي الاوربي في حالة تعليق، مما يشير إلي تحركه الاول لشهر يوليو، ومع ذلك، فإن توقعات النمو المتوترة لمنطقة اليورو جعلت بعض الاقتصاديين ينصحون بالحذر بشأن التشديد. ومن جانبه رفض البنك المركزي الاوربي فكرة أن منطقة اليورو ستقع في ركود تضخمي، مشيرا إلي أن جميع التوقعات تشير إلي أن النمو سيظل عند حوالي 2% وأن التضخم سيعود الي هدف البنك المركزي البالغ 2% في النصف الثاني من العام الحالي.
ومع انهاء الطابع التشديدي للسياسات، سيكون من المهم الحد من عدم المساواة والبحث عن دخل أعلي للجميع من خلال استخدام الادوات المالية والنقدية والتي تقوي سلاسل الامداد وتعزيز منشآت الاعمال المتناهية والصغيرة والمتوسطة، وتحسين عملية تخصيص رأس المال من خلال السياسات التي تركز علي جانب العرض وزيادة الانتاج والانتاجية، وسيتطلب تخفيض الركود التضخمي اتخاذ تدابير موجهة من جانب واضعي السياسات حول العالم، ففي هذه الحقبة الاستثنائية التي تتداخل فيها الأزمات العالمية، سيكون علي واضعي السياسات تركيز جهودهم علي ثلاث مجالات رئيسية:-
أولاً: يجب عليهم الحد من الأضرار الواقعة علي الفئات الاقتصادية المتضررة من الاحداث الحالية أو الفئات الاولي بالرعاية، وتدعيم شبكات الأمان الاجتماعي.
ثانياً: يجب علي واضعي السياسات مجابهة القفزة المفاجئة في اسعار النفط والغذاء، فمن الضروري استدامة وتعزيز إمداد السلع الأولية الرئيسية للغذاء والطاقة، حيث أن الأسواق تعمل بنظرة استشرافية للمستقبل، ومن ثم، فإن مجرد الإعلان عن ضمان امدادات السلع في المستقبل سيساعد في خفض الاسعار وتوقعات التضخم، وتجنب فرض القيود أياً كانت علي تدفق الصادرات والواردات والتي تتسبب في تضخيم زيادات الاسعار.
ثالثاً: ثمة حاجة ملحة إلي تكثيف الجهود المبذولة لتخفيف أعباء الدين، فقد كانت المخاطر المتعلقة بالديون حادة علي البلدان منخفضة الدخل في الفترة التي سبقت الجائحة، ومع امتداد مستويات المديونية الحرجة إلي البلدان متوسطة الدخل، ستتنامي المخاطر التي تواجه الاقتصاد العالمي في ظل غياب جهود التخفيف السريع والشامل والكبير لأعباء الدين.
وبالتالي، فإن استعادة النمو طويل الاجل تتوقف علي استئناف النمو بوتيرة أسرع ووجود بيئة أكثر استقراراً للسياسات القائمة علي القواعد التي تهتم بزيادة المعروض، فإن زيادة العرض يعتبر هو حجر الزاوية الفترة القادمة، فما أن تتوقف الحرب في أوكرانيا ستتضاعف الجهود لإعادة بناء الاقتصاد الاوكراني وانعاش الاقتصاد العالمي، وفي غضون ذلك يجب علي واضعي السياسات التخفيف من التهديدات الأخرى التي تواجه التنمية في العالم ومنها الارتفاع الحاد في أسعار الغذاء والطاقة، واستمرار ضغوط الركود التضخمي، وأعباء الديون المفرطة الخطيرة بشكل متزايد، وتزايد عدم المساواة وعدم الاستقرار فضلاً عن المخاطر العديد الناشئة عن تغير المناخ.