》عمرو المنير 》يكتب| “الملح”..والضريبة.. والتاريخ!!!
//بقلم: عمرو المنير..!!!
” زي الملح محشور في كل أكلة” .. مثل مصري قديم مقصود به الشخص المتطفل أو الشئ الموجود في كل الأحداث بغض النظر عن قيمته ، لأن الملح هو المادة الوحيدة التي تستخدم علي نطاق واسع في كل الأطعمة وتتوسط الحياة بشكل يصعب معه الاستغناء الكامل عنها.
وقد كتب الملح سطورا تحمل اسمه في كتب التاريخ ..حيث غيرت تلك السلعة مسار التاريخ عبر أحداث كثيرة في دول مختلفة و كان لها موقع في تلك الأحداث. فماذا يقول التاريخ؟
قبل الميلاد بستة ألاف سنة كان الملح يقدم قربانا للآلهة في الديانة المصرية القديمة ، كما كان السلعة الأساسية للتجارة في الدولة الفينيقية و امبراطوريتها الممتدة عبر البحر المتوسط.
ليس هذا فقط بل تم استخدام الملح كعملة في عهد الإمبراطورية الرومانية حيث كان الجنود الرومان يتلقون رواتبهم بالملح لأنه كان يُنظر إليه على أنه عملة ثمينة في ذلك الوقت. وقرب نهاية عهدهم ، بدأ الرومان في احتكار الملح من أجل تمويل أهدافهم الحربية. وتم بناء أول طرق الإمبراطورية الرومانية العظيمة فيا سالاريا أو طريق الملح ليستخدم في نقل الملح.
واستخدمه المصريون في زمن حكم العثمانيين كوسيلة للتهرب الضريبي بكلمة “طظ يا عاشور” التي كانت جواز مرور البضاعة بلا رسوم.
ولم يفقد الملح أهميته كسلعة مطلوبة طول الوقت ولها أهميتها حتى أنه أصبح أحد أكثر مصادر الدخل ثباتا بالنسبة للحكومات.
لذلك كانت ضريبة الملح تحقق عوائد ضخمة للغاية للحكومات ،وارتفعت بمستويات المعيشة في العديد من البلدان ،وغيرت قوانين الضرائب في كثير من دول العالم مثل فرنسا وإسبانيا وروسيا وإنجلترا والهند والصين لفرض ضريبة على الملح.
كما كانت سببًا مباشرًا في تغير وجه الحياة السياسية لدول كبرى سوف نلقى الضوء على بعض منها.
يقول التاريخ أن الملح كان المصدر الرئيسي لتمويل سور الصين العظيم حيث نشأت ضريبة الملح في الصين سنة ٣٠٠ قبل الميلاد وكانت هذه الضريبة أحد أكبر مصادر الإيرادات الحكومية حتى أن عائداتها هي التي مولت بناء سور الصين العظيم ، إلى جانب تمويل الجيش الصيني والعديد من مشاريع التنمية الحكومية الأخرى.
وفي الهند فرضت أول ضريبة على الملح من قبل شركة الهند الشرقية البريطانية ،ولم يكن المواطنون الهنود قادرين على سداد الضريبة الباهظة وقد تسبب ذلك في وفاة عدد كبير من المواطنين نتيجة عدم قدرتهم على تحمل تكلفة ضريبة الملح ، وهنا بدأ ” المهاتما غاندي” في عام 1930 “مسيرة الملح” والتي استمرت أربع وعشرين يوما كان المشاركون فيها يمشون عشرة أميال يوميا . وتزايد عدد المشاركين فيها حتي تحولت الي عصيان مدني وتحد منظم للسلطة البريطانية وحظيت بتغطية إعلامية واسعة على مستوى العالم. واستمر العصيان ضد ضريبة الملح عاما كاملا سجن خلاله 60 الف هندي حتي أسفر عن استقلال الهند عام 1947.
وكانت ضريبة الملح الفرنسية المسماة Gabelle من أسباب اندلاع الثورة الفرنسية عام 1789 ، بدأت هذه الضريبة كضريبة غير مباشرة مفروضة على السلع الزراعية من قبل التاج الفرنسي ، ولكن اعتبارًا من عام 1360 أصبحت تقتصر فقط على الملح. كانت Gabelle أحد أكثر أنواع الضرائب ظلما في تاريخ فرنسا لأن النبلاء والكرادلة وحاشية الملك كانوا يعفون منها بينما يدفعها صغار المزارعين والحرفيين وسكان المدن الأكثر فقرًا الذين كان طعامهم يقتصر علي الخبز والملح. وكلما احتاج القصر الفرنسي أموالا لتمويل حروبه كان يزيد سعر ضريبة الملح حتى أصبحت هي المصدر الأساسي لتمويل خزانة الملك لويس الرابع عشر.
كل ذلك ساهم في انتشار التمرد و السخط لدي أغلبية الشعب الفرنسي حتى يُقال أن تلك الضريبة كانت الشرارة الأولي للثورة الفرنسية ، وكان أول قرار أصدرته الجمعية الوطنية بعد الثورة الفرنسية هو إلغاء تلك الضريبة الظالمة التي أصبحت رمزا للظلم والمعاناة.
وليس التاريخ فقط هو المعني بأمر هذه الضريبة بل الحاضر أيضا حيث تفكر الحكومة البريطانية حاليا في فرض ضريبة بمعدل 6% علي الأطعمة التي تحتوي علي نسبة عالية من الملح ضمن الاستراتيجية الوطنية للغذاء وحفاظا علي صحة المواطنين.
لا يمثل تاريخ الضرائب حكايات نرويها فقط ولكنه يمثل دروسا نأخذها لتنفعنا في الحاضر وقد شهد التاريخ جولات كثيرة بسبب الاستخدام الخاطيء لسلاح الضريبة أحيانا ، وتظل تلك الحكايات التي غيرت وجه الحياة السياسية والاقتصادية لبعض الدول ضرورية لفهم الحاضر وصنع المستقبل.